الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل
أراد ابن حذيم، وارتفاعه على أنه مبتدأ خبره {الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن} أو على أنه بدل من الصيام في قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] أو على أنه خبر مبتدأ محذوف. وقرئ بالنصب على: صوموا شهر رمضان، أو على الإبدال من {أَيَّامًا معدودات}، أو على أنه مفعول {وَأَن تَصُومُواْ} [البقرة: 184]. ومعنى: {أُنزِلَ فِيهِ القرآن} ابتدئ فيه إنزاله. وكان ذلك في ليلة القدر. وقيل: أنزل جملة إلى سماء الدنيا، ثم نزل إلى الأرض نجوما. وقيل: أنزل في شأنه القرآن، وهو قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} كما تقول: أنزل في عمر كذا، وفي عليّ كذا.وعن النبي عليه السلام: «نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين مضين» {هُدًى لّلنَّاسِ وبينات} نصب على الحال، أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق، وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحقّ والباطل.فإن قلت: ما معنى قوله: {وبينات مِّنَ الهدى} بعد قوله {هُدًى لّلنَّاسِ}؟ قلت: ذكر أوّلاً أنه هدى، ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به الله، وفرق به بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فمن كان شاهداً، أي حاضراً مقيماً غير مسافر في الشهر، فليصم فيه ولا يفطر. والشهر: منصوب على الظرف وكذلك الهاء في {فَلْيَصُمْهُ} ولا يكون مفعولاً به كقولك: شهدت الجمعة، لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر {يُرِيدُ الله} أن ييسر عليكم ولا يعسر، وقد نفي عنكم الحرج في الدين، وأمركم بالحنيفية السمحة التي لا إصر فيها، ومن جملة ذلك ما رخص لكم فيه من إباحة الفطر في السفر والمرض.ومن الناس من فرض الفطر على المريض والمسافر، حتى زعم أنّ من صام منهما فعليه الإعادة. وقرئ: {اليسر، والعسر}- بضمتين. الفعل المعلل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره {وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} شرع ذلك يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر، فقوله: {لتكلموا} علة الأمر بمراعاة العدّة {وَلِتُكَبّرُواْ} علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علة الترخيص والتيسير، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان. وإنما عدّى فعل التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مضمناً معنى الحمد، كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم. ومعنى {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وإرادة أن تشكروا وقرئ: {ولتكملوا} بالتشديد.فإن قلت: هل يصحّ أن يكون (ولتكملوا) معطوفاً على علة مقدرة، كأنه قيل لتعلموا ما تعلمون، ولتكملوا العدّة، أو على اليسر، كأنه قيل: يريد الله بكم اليسر، ويريد بكم لتكملوا، كقوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ} [الصف: 8] قلت: لا يبعد ذلك والأوّل أوجه.فإن قلت: ما المراد بالتكبير؟ قلت: تعظيم الله والثناء عليه. وقيل: هو تكبير يوم الفطر. وقيل: هو التكبير عند الإهلال.
فقيل له: أرفثت؟ فقال: إنما الرفث ما كان عند النساء. وقال الله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} فكنى به عن الجماع، لأنه لا يكاد يخلو من شيء من ذلك.فإن قلت: لم كنى عنه هاهنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله: {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21]، {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف: 189]، {باشروهن}، {أَوْ لامستم النساء} [النساء: 43]، {دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} [البقرة: 223]، {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237]، {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24]، {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222]؟ قلت: استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة، كما سماه اختياناً لأنفسهم.فإن قلت: لم عدى الرفث بإلى؟ قلت: لتضمينه معنى الإفضاء. لما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه، شبه باللباس المشتمل عليه. قال الجعدي: فإن قلت: ما موقع قوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ}؟ قلت: هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهنّ مثل هذه المخالطة والملابسة قلّ صبركم عنهنّ وصعب عليكم اجتنابهنّ، فلذلك رخص لكم في مباشرتهنّ {تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} تظلمونها وتنقصونها حظها من الخير. والاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} واطلبوا ما قسم الله لكم وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة، أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل.وقيل: هو نهى عن العزل لأنه في الحرائر. وقيل: وابتغوا المحل الذي كتبه الله لكم وحلّله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرّم.وعن قتادة: وابتغوا ما كتب الله لكم من الإباحة بعد الحظر.وقرأ ابن عباس: (واتبعوا) وقرأ الأعمش: (وأتوا) وقيل معناه: واطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب إن أصبتموها وقمتموها، وهو قريب من بدع التفاسير {الخيط الابيض} هو أوّل من يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود. و{الخيط الأسود} ما يمتدّ معه من غبش الليل، شبها بخيطين أبيض وأسود. قال أبو داؤد: وقوله: {مِنَ الفجر} بيان للخيط الأبيض، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود. لأنّ بيان أحدهما بيان للثاني. ويجوز أن تكون (من) للتبعيض: لأنه بعض الفجر وأوّله.فإن قلت: أهذا من باب الاستعارة أم من باب التشبيه؟ قلت: قوله: {مِنَ الفجر} أخرجه من باب الاستعارة، كما أن قولك: رأيت أسداً مجاز. فإذا زدت (من فلان) رجع تشبيهاً.فإن قلت: فلم زيد {مِنَ الفجر} حتى كان تشبيهاً؟ وهلا اقتصر به على الاستعارة التي هي أبلغ من التشبيه وأدخل في الفصاحة؟ قلت: لأنّ من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام، ولو لم يذكر {مِنَ الفجر} لم يعلم أن الخيطين مستعاران، فزيد {مِنَ الفجر} فكان تشبيهاً بليغاً وخرج من أن يكون استعارة.فإن قلت: فكيف التبس على عديّ بن حاتم مع هذا البيان حتى قال: عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فضحك وقال: «إن كان وسادك لعريضا» وروي: (إنك لعريض القفا، إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل)؟ قلت: غفل عن البيان، ولذلك عرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم قفاه، لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته. وأنشدتني بعض البدويات لبدوي: فإن قلت: فما تقول فيما روي عن سهل بن سعد الساعدي: أنها نزلت ولم ينزل {مِنَ الفجر} فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له، فنزل بعد ذلك {مِنَ الفجر} فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار؟ وكيف جاز تأخير البيان وهو يشبه العبث، حيث لا يفهم منه المراد، إذ ليس باستعارة لفقد الدلالة، ولا بتشبيه قبل ذكر الفجر، فلا يفهم منه إذن إلا الحقيقة وهي غير مرادة؟ قلت: أما من لم يجوّز تأخير البيان- وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين، وهو مذهب أبي عليّ وأبي هاشم- فلم يصح عندهم هذا الحديث. وأما من يجوّزه فيقول: ليس بعبث. لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ويعزم على فعله إذا استوضح المراد منه {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل} قالوا: فيه دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر، وعلى نفي صوم الوصال {عاكفون فِي المساجد} معتكفون فيها. والاعتكاف أن يحبس نفسه في المسجد يتعبد فيه. والمراد بالمباشرة الجماع لما تقدم من قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَائِكُمْ}، {فالن باشروهن} وقيل معناه: ولا تلامسوهنّ بشهوة، والجماع يفسد الاعتكاف، وكذلك إذا لمس أو قبل فأنزل.وعن قتادة كان الرجل إذا اعتكف خرج فباشر امرأته ثم رجع إلى المسجد، فنهاهم الله عن ذلك. وقالوا: فيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد، وأنه لا يختصّ به مسجد دون مسجد. وقيل: لا يجوز إلا في مسجد نبيّ وهو أحد المساجد الثلاثة. وقيل: في مسجد جامع. والعامة على أنه في مسجد جماعة.وقرأ مجاهد: {في المسجد} {تِلْكَ} الأحكام التي ذكرت {حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} فلا تغشوها.فإن قلت: كيف قيل: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} مع قوله:{فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} [البقرة: 229]؟ قلت: من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق فنهى أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيز الباطل، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحدّ الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل لئلا يداني الباطل، وأن يكون في الواسطة متباعداً عن الطرف فضلاً عن أن يتخطاه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» فالرتع حول الحمى وقربان حيزه واحد. ويجوز أن يريد بحدود الله محارمه ومناهيه خصوصاً، لقوله: {وَلاَ تباشروهن} وهي حدود لا تقرب.
|